فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)}.
قوله: {إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ} جملةٌ حاليةٌ مِنْ {قرية} وإن كانَتْ نكرةً؛ لأنَّها في سياقِ النفي.
قوله: {بما أُرْسِلْتُمْ} متعلقٌ بخبر إنَّ و {به} متعلِّقٌ ب {أُرْسِلْتُمْ}. والتقدير: إنَّا كافرون بالذي أُرْسِلْتم به، وإنما قُدِّم للاهتمامِ. وحَسَّنه تواخي الفواصلِ.
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)}.
قوله: {وَيَقْدِرُ} أي: يُضَيِّق بدليل مقابلتِه ل {يَبْسُط}. وهذا هو الطباقُ البديعيُّ. وقرأ الأعمش {ويُقَدِّر} بالتشديد في الموضعين.
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)}.
قوله: {بالتي تُقَرِّبُكُمْ} صفةٌ للأموالِ والأولادِ؛ لأنَّ جمعَ التكسيرِ غيرَ العاقلِ يُعامَلُ معاملةَ المؤنثةِ الواحدة. وقال الفراء والزجَّاج: إنَّه حذفَ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه. قالا: والتقدير وما أموالُكم بالتي تُقَرِّبُكم عندنا زُلْفَى، ولا أولادُكم بالتي تُقَرِّبُكم. وهذا لا حاجةَ إليه أيضًا. ونُقِل عن الفراء ما تقدَّمَ: مِنْ أنَّ {التي} صفةٌ للأموالِ والأولادِ معًا. وهو الصحيح. وجعل الزمخشري {التي} صفةً لموصوفٍ محذوفٍ. قال: ويجوزُ أَنْ تكون هي التقوى وهي المقرِّبةُ عند الله زُلْفَى وحدها أي: ليسَتْ أموالُكم وأولادُكم بتلك الموصوفةِ عند الله بالتقريبِ. وقال الشيخ: ولا حاجةَ إلى هذا الموصوفِ قلت: والحاجةُ إليه بالنسبة إلى المعنى الذي ذكره داعيةٌ.
قوله: {زُلْفَى} مصدرٌ مِنْ معنى الأول، إذ التقدير: تُقَرِّبكم قُرْبى. وقرأ الضحَّاك {زُلَفًا} بفتح اللام وتنوين الكلمة على أنها جمعُ زُلْفَى نحو: قُرْبَة وقُرَب. جُمِع المصدرُ لاختلافِ أنواعِه.
قوله: {إِلاَّ مَنْ آمَنَ} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه استثناء منقطعٌ فهو منصوبُ المحلِّ. الثاني: أنه في محلِّ جَرّ بدلًا من الضمير في {أموالكم}. قاله الزجاج. وغَلَّطه النحاس: بأنه بدلٌ من ضمير المخاطب. قال: ولو جاز هذا لجازَ رَأَيْتُك زيدًا. وقولُ أبي إسحاقَ هذا هو قولُ الفراء. انتهى.
قال الشيخ: ومذهبُ الأخفش والكوفيين أنه يجوزُ البدلُ مِنْ ضميرِ المخاطبةِ والمتكلم؛ إلاَّ أنَّ البدلَ في الآيةِ لا يَصِحُّ؛ ألا ترى أنه لا يَصِحُّ تفريغُ الفعلِ الواقعِ صلةً لما بعد إلا لو قلتَ: ما زيدٌ بالذي يَضْرِب إلاَّ خالدًا لم يَجُزْ. وَتَخَيَّلَ الزجَّاجُ أنَّ الصلةَ- وإن كانَتْ مِنْ حيث المعنى منفيَّةً- أنه يجوزُ البدلُ، وليس بجائزٍ، إلاَّ أَنْ يَصِحَّ التفريغُ له. قلت: ومَنْعُهُ قولَك: ما زيدٌ بالذي يَضْرب إلاَّ خالدًا فيه نظرٌ، لأنَّ النفيَ إذا كان مُنْسَحبًا على الجملة أُعْطي حُكْمَ ما لو باشَرَ ذلك الشيءَ. ألا ترى أنَّ النفيَ في قولك ما ظننتُ أحدًا يَفْعلُ ذلك إلاَّ زيدٌ سَوَّغَ البدلَ في زيد مِنْ ضميرِ يَفْعَل وإنْ لم يكنِ النفيُ مُتَسَلِّطًا عليه. قالوا: ولكنه لمَّا كان في حَيِّزِ النفي صَحَّ فيه ذلك، فهذا مثلُه.
والزمخشريُّ أيضًا تَبع الزجَّاجَ والفراء في ذلك من حيث المعنى، إلاَّ أنَّه لم يَجْعَلْه بدلًا بل منصوبًا على أصل الاستثناء، فقال: إلاَّ مَنْ آمنَ استثناء من كم في تُقَرِّبُكم. والمعنى: أنَّ الأموالَ لا تُقَرِّبُ أحدًا إلاَّ المؤمنَ الذي يُنْفقها في سبيلِ الله. والأولاد لا تُقَرِّبُ أحدًا إلاَّ مَنْ عَلَّمهم الخيرَ، وفَقَّهَهم في الدين، ورَشَّحهم للصلاح.
ورَدَّ عليه الشيخُ بنحوِ ما تقدَّم فقال: لا يجوزُ: ما زيدٌ بالذي يَخْرُج إلاَّ أخوه، وما زيدٌ بالذي يَضْرب إلاَّ عَمْرًا. والجوابُ عنه ما تقدم، وأيضًا فالزمخشريُّ لم يجعَلْه بدلًا بل استثناء صريحًا، ولا يُشْتَرَطُ في الاستثناء التفريغُ اللفظيُّ بل الإِسنادُ المعنويُّ، ألا ترى أنك تقول: قام القومُ إلاَّ زيدًا ولو فَرَّغْتَه لفظًا لامتنع؛ لأنه مُثْبَتٌ. وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ هو الوجهُ الثالثُ في المسألة.
الرابع: أنَّ {مَنْ آمَنَ} في محلِّ رفع على الابتداء. والخبرُ قولُه: {فأولئك لَهُمْ جَزَاء الضعف}. وقال الفراء: هو في موضعٍ رفعٍ تقديرُه: ما هو المقرَّب إلاَّ مَنْ آمن وهذا لا طائلَ تحته. وعَجِبْتُ من الفَرَّاء كيف يقوله؟
وقرأ العامَّةُ: {جزاء الضِّعْفِ} مضافًا على أنه مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه، أي: أَنْ يُجازِيَهم الضِّعْفَ. وقَدَّره الزمخشريُّ مبنيًَّا للمفعول أي: يُجْزَوْن الضِّعْفَ. ورَدَّه الشيخ: بأنَّ الصحيحَ مَنْعُه. وقرأ قتادة برفعِهما على إبدالِ الضِّعْف مِنْ {جزاء}. وعنه أيضًا وعن يعقوبَ بنصبِ {جزاء} على الحال. والعاملُ فيها الاستقرار، وهذه كقولِه: {فَلَهُ جَزَاء الحسنى} [الكهف: 88] فيمَنْ قرأ بنصبِ {جزاء} في الكهف.
قوله: {في الغُرُفاتِ} قرأ حمزةُ {الغُرْفَة} بالتوحيد على إرادةِ الجنس ولعدمِ اللَّبْسِ؛ لأنه مَعْلومٌ أنَّ لكلِّ أحدٍ غرفةً تَخُصُّه. وقد أُجْمِعَ على التوحيدِ في قوله: {يُجْزَوْنَ الغرفة} [الفرقان: 75] ولأنَّ لفظَ الواحدِ أخفُّ فوُضِعَ مَوْضِعَ الجمعِ مع أَمْنِ اللَّبْسِ. والباقون {الغُرُفات} جمعَ سَلامة. وقد أُجْمِعَ على الجمع في قوله: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفًَا} [العنكبوت: 58] والرسمُ مُحْتَمِلٌ للقراءتَيْن. وقرأ الحسن بضمِّ راء {غُرُفات} على الإِتباع. وبعضُهم يَفْتحها. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك أول البقرة. وقرأ ابنُ وثَّاب {الغُرُفَة} بضمِّ الراء والتوحيد.
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)}.
قوله: {وَمَا أَنفَقْتُمْ} يجوزُ أَنْ تكونَ ما موصولةً في محلِّ رَفْعٍ بالابتداء. والخبرُ قولُه: {فهو يُخْلِفُه} ودخلتِ الفاء لشَبَهِه بالشرطِ. و {مِنْ شَيْءٍ} بيانٌ، كذا قيلَ. وفيه نظرٌ لإِبهامِ {شيء} فأيُّ تبيينٍ فيه؟ الثاني: أَنْ تكونَ شرطيةً فتكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولًا مقدَّمًا، و {فهو يُخْلِفُه} جوابُ الشرطِ.
قوله: {الرازِقين} إنما جُمِع من حيث الصورةُ؛ لأنَّ الإِنسانَ يرزقُ عيالَه مِنْ رزقِ اللَّهِ، والرازقُ في الحقيقة للكلِّ إنما هو الله تعالى.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)}.
قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ} قد تقدَّم أنه يُقْرأ بالنونِ والياء في الأنعام.
قوله: {أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} {إيَّاكم} منصوبٌ بخبر كان، قُدِّمَ لأجلِ الفواصلِ والاهتمامِ. واسْتُدِلَّ به على جوازِ تقديم خبر كان عليها إذا كان خبرُها جملةً فإنَّ فيه خلافًا: جَوَّزه ابن السَّراج، ومنعَه غيرُه. وكذلك اختلفوا في: توسُّطه إذا كان جملةً، قال ابن السَّراج: القياسُ جوازُه، ولكنْ لم يُسْمَعْ. قلت: قد تقدَّم في قوله: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} [الأعراف: 137] ونحوه أنه يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ تقديمِ الخبرِ وأَنْ لا يكون. ووجهُ الدلالةِ هنا: أنَّ تقديمَ المعمولِ يُؤْذِنُ بتقديمِ العاملِ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في هود عند قولِه: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا} [هود: 8] ومَنْعُ هذه القاعدةِ.
{فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)}.
قوله: {التي كُنتُم بِهَا} صفةُ النارِ، وفي السجدة وَصْفُ العذاب. قيل: لأنَّ ثَمَّ كانوا مُلْتَبسين بالعذابِ متردِّدِين فيه فَوُصِفَ لهم ما لابَسُوه، وهنا لم يُلابِسُوه بَعْدُ؛ لأنه عَقيبُ حَشْرِهم.
{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)}.
قوله: {يَدْرُسُونَهَا} العامَّةُ على التخفيفِ مضارعَ درس مخففًا أي: حَفِظَ. وأبو حيوةَ {يَدَّرِسُوْنَها} بفتح الدال مشددةً وكسرِ الراء. والأصلُ يَدْتَرِسُوْنها من الادِّراس على الافتعالِ فأُدْغم. وعنه أيضًا بضمِّ الياء وفتحِ الدالِ وشَدِّ الراء من التدريس.
قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ} أي: إلى هؤلاء المعاصرين لك لم نُرْسِلْ إليهم نذيرًا يُشافِهُهم بالنِّذارةِ غيرَك، فلا تَعارُضَ بينَه وبينَ قولِه: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] إذِ المرادُ هناك آثارُ النَّذيرِ، ولا شَكَّ أنَّ هذا كان موجودًا، يَذْهَبُ النبيُّ، وتَبْقَى شريعتُه.
{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)}.
قوله: {وَمَا بَلَغُواْ} الظاهرُ أن الضميرُ في {بَلَغُوا} وفي {آتيناهم} للذين مِنْ قبلهم ليناسِقَ قوله: {فكذَّبُوا رُسُلي} بمعنى: أنهم لم يَبْلُغوا في شُكْر النِّعْمَة وجزاء المِنَّةِ مِعْشارَ ما آتيناهم من النعمِ والإِحسانِ إليهم. وقيل: بل ضميرُ الرفع لقريشٍ والنصبِ للذين مِنْ قبلهم، وهو قولُ ابنِ عباس على معنى أنهم كانوا أكثرَ أموالًا. وقيل: بالعكس على معنى: إنَّا أَعْطَيْنا قريشًا من الآياتِ والبراهينِ ما لم نُعْطِ مَنْ قبلَهم.
واخْتُلِفَ في المِعْشار فقيل: هو بمعنى العُشْرِ، بنى مِفْعال مِنْ لفظِ العُشْر كالمِرْبَاع، ولا ثالثَ لهما من ألفاظِ العدد لا يقال: مِسْداسَ ولا مِخْماس. وقيل: هو عُشْرُ العُشْرِ. إلاَّ أنَّ ابنَ عطيَّة أنكره وقال: {ليس بشيء}. وقال الماوردي: المِعْشارُ هنا: هو عُشْرُ العُشَيْرِ، والعُشَيْرُ هو عُشْرُ العُشْر، فيكون جزءًا من ألفٍ. قال: وهو الأظهرُ؛ لأنَّ المرادَ به المبالغةَ في التقليل.
قوله: {فَكَذَّبوا} فيه وجهان، أحدُهما: أنه معطوف على {كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ}. والثاني: أنه معطوف على {وما بَلَغُوا} وأوضحَهما الزمخشريُّ فقال: فإنْ قُلْتَ: ما معنى {فكذَّبُوا رُسُلي} وهو مستغنى عنه بقوله: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ}؟ قلت: لمَّا كان معنى قولِه: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} وفَعَلَ الذين مِنْ قبلِهم التكذيبَ، وأَقْدَمُوا عليه جُعِلَ تكذيبُ الرسلِ مُسَبَّبًا عنه. ونظيرُه أَنْ يقولَ القائلُ: أقدمَ فلانٌ على الكفر فَكَفَرَ بمحمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم. ويجوزُ أَنْ يُعْطَفَ على قَولِه: {وما بَلَغوا} كقولك: ما بلغ زيدٌ مِعْشارَ فضل عمروٍ فتَفَضَّلَ عليه.
و {نَكير} مصدرٌ مضافٌ لفاعِله أي: إنكاري. وتقدَّمَ حَذْفُ يائِه وإثباتُها. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤكُمْ}.
الحكماء، والأَولياء- الذين هم الأئمة في هذه الطريقة- إذا دَلوا الناسَ عَلَى الله. قال بعض إخوان السوء- مثل بعض المتنصحين من أهل الغفلة وأبناء الدنيا لمريدٍ: ما هذا؟ من الذي يطيق كل هذا؟ ربما لا تُتمّمُ الطريق!
لابُد من الدنيا ما دُمت تعيش!.. وأمثال ذلك، حَتى يميل هذا المسكينُ عند قبول النصح، وربما كان له هذا من خواطره الدنية... فيهلك ويضلّ.
{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)}.
الإشارة من هذا إلى أهل الغفلة؛ يعارضون أصحابَ القلوب فيما يجري من الأمور، بما تشوِّش إليهم نفوسُهم، ويخطر ببالهم من هواجسهم عن مُقْتَضَى تفرقةِ قلوبهم-على قياس ما يقع لهم- مِنْ غيرِ استنادٍ إلى إلهامٍ، أو اعتمادٍ على تقديرٍمن الله وإفهام.
وأهلُ الحقائق- الذين هم لسانُ الوقت- إذا قالوا شيئًا أو أطلقوا حديثًا، فلو طولبوا بإقامة البرهان عليه لم يمكنهم؛ لأن الذي يتكلم عن الفراسة أو عن الإلهام، أو كان مُسْتَنْطَقًا فليس يمكن لهؤلاء إقامة الحجة على أقوالهم. وأصحابُ الغفلة ليس لهم إيمان بذلك، فإذا سمعوا شيئًا منه عارضوهم فيهلكون، فسبيلُ هؤلاء الأكابر عند ذلك أن يسكتوا، ثم الأيام تجيب أولئك. اهـ.

.تفسير الآيات (46- 49):

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أبطل شبههم كلها، وليّن من عريكتهم بالتنبيه على التحذير، فصاروا جديرين بقبول الوعظ، وكان مما رموه به- وحاشاه- الجنون وتعمد الكذب، أمره بالإقبال عليهم به مخففًا له لئلا ينفروا من طوله فقال: {قل} وأكده زيادة في استجلابهم إلى الإقبال عليه فقال: {إنما أعظكم بواحدة} أي فاسمعوا ولا تنفروا خوفًا من أن أملّكم؛ ثم استأنف قوله بيانًا لها: {أن تقوموا} أي توجهوا نفوسكم إلى تعرف الحق، وعبر بالقيام إشارة إلى الاجتهاد {لله} أي الذي لا أعظم منه على وجه الإخلاص واستحضار ما له من العظمة بما له لديكم من الإحسان لا لإرادة المغالبة حال كونكم {مثنى} أي اثنين اثنين، وقدمه إشارة ألى أن أغلب الناس ناقص العقل {وفرادى} أي واحدًا واحدًا، من وثق بنفسه في رصانه عقله وأصالة رأيه قام وحده ليكون أصفى لسره، وأعون على خلوص فكره، ومن خاف عليها ضم إليه آخر ليذكره إن نسي.
ويقومه إن زاغ.
ولما كان هذا القسم أكثر وجودًا في الناس قدمه ولم يذكر غيرهما من الأقسام، إشارة إلى أنهم إذا كانوا على هاتين الحالتين كان أجدر لهم بأن يعرفوا الحق من غير شائبة حظ مما يكون في الجمع الكثير من الجدال واللفظ المانع من تهذيب الرأي وتثقيف الفكر وتنقية المعاني.
ولما كان ما طلب منهم هذا لأجله عظيمًا جديرًا بأن يهتم له هذا الاهتمام، أشار إليه بأداة التراخي فقال: {ثم تتفكروا} أي تجتهدوا بعد التأني وطول التروي في الفكر فيما وسمتم به صاحبكم من أمر الجنون.
ولما كان بعده صلى الله عليه وسلم من هذا آمرًا لا يتمارى فيه، استأنف قوله معينًا بالتعبير بالصاحب مؤكدًا تكذيبًا لهم وتنبيهًا على ظهور مضمون هذا النفي: {ما بصاحبكم} أي الذي دعاكم إلى الله وقد بلوتموه صغيرًا ويافعًا وشابًا وكهلًا، وأعرق في النفي بقوله: {من جنة} وخصها لأنها مما يمكن طروءه، ولم يعرّج على الكذب لأنه مما لا يمكن فيمن عاش بين أناس عمرًا طويلًا ودهرًا دهيرًا يصحبهم ليلًا ونهارًا صباحًا ومساء سرًا وعلنًا في السراء والضراء، وهو أعلاهم همة وأوفاهم مروءة، وأزكاهم خلائق وأظهرهم شمائل، وأبعدهم عن الأدناس ساحة في مطلق الكذب، فكيف بما يخالف أهواءهم فكيف بما ينسب إلى الله فكيف وكلامه الذي ينسب فيه إلى الكذب معجز بما فيه من الحكم والأحكام، والبلاغة والمعاني التي أعيت الأفهام.
ولما ثبت بهذا إعلامًا وإفهامًا براءته مما قذفوه به كله، حصر أمره في النصيحة من الهلاك، فقال منبهًا على أن هذا الذي أتاهم به لا يدعيه إلا أحد رجلين: إما مجنون أو صادق هو أكمل الرجال، وقد انتفى الأول فثبت الثاني: {إن} أي ما {هو} أي المحدث عنه بعينه {إلا نذير لكم} أي خاصًا إنذاره وقصده الخلاص بكم، وهول أمر العذاب بتصويره صورة من له آلة بطش محيطة بمن تقصده فقال: {بين يدي} أي قبل حلول {عذاب شديد} قاهر لا خلاص منه، إن لم ترجعوا إليه حل بكم سريعًا، روى البخاري عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم فقال: يا صباحاه! فاجتمعت إليه قريش فقالوا: ما لك، فقال: «أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم أما كنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى، فقال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبًا لك، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عز وجل {تبت يدا أبي لهب وتب}».
ولما انتفى عنه بهذا ما خيلوا به، بقي إمكان أن يكون لغرض أمر دنيوي فنفاه بأمره بقوله: {قل} أي للكفرة: {ما} أي مهما {سألتكم من أجر} أي على دعائي لكم {فهو لكم} لا أريد منه شيئًا، وهو كناية عن أني لا أسألكم على دعائي لكم إلى الله أجرًا أصلًا بوجه من الوجوه، فإذا ثبت أن الدعاء ليس لغرض دنيوي، وأن الداعي أرجح الناس عقلًا، ثبت أن الذي حمله على تعريض نفسه لتلك الأخطار العظيمة إنما هو أمر الله الذي له الأمر كله.
ولما كانوا يظنون به في بعض ظنونهم أنه يريد أمرًا دنيويًا، أكد قوله: {إن} أي ما {أجري إلا على الله} أي الذي لا أعظم منه، فلا ينبغي لذي همة أن يبتغي شيئًا إلا من عنده {وهو} أي والحال أنه {على كل شيء شهيد} أي بالغ العلم بأحواله، فهو جدير بأن يهلك الظالم ويعلي كعب المطيع.
ولما لم يبق شيء يخدش في أمر المبلغ، أتبعه تصحيح النقل جوابًا لمن كأنه يقول: برئت ساحتك، فمن لنا بصحة مضامين ما تخبر؟ فقال مؤكدًا لإنكارهم أن يكون ما يأتي به حق معيدًا الأمر بالقول، إشارة إلى أن كل كلام صدر دليل كاف مستقل بالدلالة على ما سبق له: {قل} لمن أنكر التوحيد والرسالة والحشر معبرًا بما يقتضي العناية الموجبة لنصره على كل معاند، {إن ربي} أي المحسن إلي بأنواع الإحسان، المبيض لوجهي عند الامتحان {يقذف بالحق} أي يرمي به في إثبات جميع ذلك وغيره مما يريد رميًا وحيًا جدًا لأنه غني عن تدبر أو تروِّ أو تفكر في تصحيح المعنى أو إصلاح اللوازم لأنه علام الغيوب، فيفضح من يريد إطفاء نوره فضيحة شديدة، ويرهق باطله كما فعل فيما وسمتموني به وفي التوحيد وغيره لا كما فعلتم أنتم في مبادرتكم إلى نصر الشرك وإلى ما وصفتموني به ووصفتم ما جئت به، فلزمكم على ذلك أمور شنيعة منها الكذب الصريح، ولم تقدروا أن تأتوا في أمري ولا في شيء من ذلك بشيء يقبله ذو عقل أصلًا.
ولما وصفه بنهاية العلم، أتبعه بعض آثاره فقال: {قل جاء الحق} أي الأمر الثابت الذي لا يقدر شيء أن يزيله؛ وأكد تكذيبًا لهم في ظنهم أنهم يغلبون فقال: {وما} أي والحال أنه ما {يبدئ الباطل} أي الذي أنتم عليه وغيره في كل حال حصل فيه تفريعه على مر الأيام {وما يعيد} بل هو كالجماد لا حركة به أصلًا، لأنه مهما نطق به صاحبه في أمره بعد هذا البيان افتضح، فإن لم ترجعوا عنه طوعًا رجعتم وأنتم صغره كرهًا، والحاصل أن هذا كناية عن هلاكه بما يهز النفس ويرفض الفكر بتمثيله بمن انقطعت حركته، وذهبت قوته، حتى لا يرجى بوجه. اهـ.